فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {آمنوا بالله وَرَسُولِهِ} أي: صدقوا بالتوحيد، وبصحة الرسالة، وهذا خطاب لكفار العرب.
ويجوز أن يكون خطابًا للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه، أو الازدياد منه.
ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله، فقال: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه، وقيل: جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم، فلا تبخلوا به.
كذا قال الحسن وغيره.
وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم، ويصير إلى غيرهم.
والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير، وما يرضاه الله على العموم، وقيل: هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص.
ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال: {فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي: الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير، وهو الجنة.
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} هذا الاستفهام، للتوبيخ والتقريع، أي: أيّ عذر لكم، وأيّ مانع من الإيمان، وقد أزيحت عنكم العلل، و{ما} مبتدأ، و{لكم} خبره، و{لا تؤمنون} في محل نصب على الحال من الضمير في {لكم}، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وقيل: المعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟ وجملة: {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ} في محل نصب على الحال من ضمير لا تؤمنون على التداخل، ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم، أي: يدعوكم للإيمان، والمعنى: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه؟ وجملة: {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضًا، أي: والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد، ووجوب الإيمان.
قرأ الجمهور: {وقد أخذ} مبنيًا للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدم ذكره.
وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب، فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته.
{هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات} أي: واضحات ظاهرات، وهي الآيات القرآنية، وقيل: المعجزات والقرآن أعظمها {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} أي: ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات، أو بالدعوة {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه، وبعث رسله لهداية عباده، فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه، والاستفهام في قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله}.
للتقريع والتوبيخ، والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} هو الإنفاق في سبيل الله، كما بينا ذلك، والمعنى: أيّ عذر لكم، وأيّ شيء يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل: إن (أن) زائدة، وجملة {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} في محل نصب على الحال من فاعل {أَلاَّ تُنفِقُواْ} أو من مفعوله، والمعنى: أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه، والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ، وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها، وتصير لله سبحانه، ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم: خلفاؤه في التصرّف فيها.
ثم بيّن سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، فقال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} قيل: المراد بالفتح: فتح مكة، وبه قال أكثر المفسرين.
وقال الشعبي، والزهري: فتح الحديبية، قال قتادة: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح {وقاتل} ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره، ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح؛ لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقلّ وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم، ولا يجدون ما يجودون به من الأموال.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

والإشارة بقوله: {أولئك} إلى (من) باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره {أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا} أي: أرفع منزلة وأعلا رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها.
قال الزجاج: لأن المتقدّمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضًا أنفذ.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صحّ عنه:
«لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه» وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه، كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} أي: وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها.
قرأ الجمهور {وكلًا} بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر.
وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ومثل هذا قول الشاعر:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي ** عليّ ذنبًا كله لم أصنع

{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} أي: من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، فإنه كمن يقرضه، والعرب تقول لكل من فعل فعلًا حسنًا قد أقرض، ومنه قول الشاعر:
وإذا جوزيت قرضًا فأجزه ** إنما يجزى الفتى ليس الجمل

قال: الكلبي {قَرْضًا} أي: صدقة {حَسَنًا} أي: محتسبًا من قلبه بلا منّ ولا أذى.
قال مقاتل: حسنًا، طيبة به نفسه، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة البقرة {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قرأ ابن عامر، وابن كثير: {فيضعفه} بإسقاط الألف إلاّ أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء، وقرأ نافع، وأهل الكوفة، والبصرة، {فيضاعفه} بالألف وتخفيف العين إلاّ أن عاصمًا نصب الفاء، ورفع الباقون.
قال ابن عطية: الرفع على العطف على {يقرض}، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام.
وضعف النصب أبو عليّ الفارسي قال؛ لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلًا مردودًا على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى؛ كأن قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} بمنزلة قوله أيقرض الله أحد {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يأتي قوم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم. قلنا من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن، هم: أرقّ أفئدة، وألين قلوبًا. فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم، ولا نصيفه، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل}».
الآية وهذا الحديث قال ابن كثير: هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير، ولم يذكر فيه الحديبية.
وأخرج أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبًا ما بلغتم أعمالهم» والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» وفي لفظ «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 15):

قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين ما لهذا المقرض، بين بعض وصفه بالكرم ببيان وقته فقال: {يوم} أي لهم ذلك في الوقت الذي {ترى} فيه بالعين، وأشار إلى أن المحبوب من المال لا يخرج عنه ولا سيما مع الإقتار إلا من وقر الدين في قلبه بتعبيره بالوصف فقال: {المؤمنين والمؤمنات} أي الذي صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى} شعارًا لهم وأمارة على سعادتهم {نورهم} الذي يوجب إبصارهم لجميع ما ينفعهم فيأخذوه وما يضرهم فيتركوه، وذلك بقدر أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها بنور العلم الذي هو ثمرة الإيمان كما أنهم قدموا المال الذي إنما يقتنيه الإنسان لمثل ذلك جزاء وفاقًا.
ولما كان من يراد تعظيمه يعطى ما يجب وما بعده شريفًا (؟) في الأماكن التي يحبها قال: {بين أيديهم} أي حيث ما توجهوا، ولذلك حذف الجار {وبأيمانهم} أي وتلتصق بتلك الجهة لأن هاتين الجهتين أشرف جهاتهم، وهم إما من السابقين، وإما من أهل اليمين، ويعطون صحائفهم من هاتين الجهتين، والشقي بخلاف ذلك لا نور له ويعطى صحيفته بشماله ومن وراء ظهره، فالأول نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقولة، والثاني نور الإنفاق لأنه بالإيمان- نبه- عليه الرازي.
ولما ذكر نفوذهم فيما يحبون من الجهات وتيسيره لهم، أتبعه ما يقال لهم من المحبوب في سلوكهم لذلك المحبوب فقال: {بشراكم اليوم} أي بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
ولما تشوفوا لذلك أخبروا بالمبشر به بقوله مخبرًا إشارة إلى أن المخبر به يحسد من البشرى لكونه معدن السرور {جنات} أي كائنة لكم تتصرفون فيها أعظم تصرف، والخبر في الأصل دخول، ولكنه عدل عنه لما ذكر من المبالغة ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به فقال؛ {تجري} وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كان ذلك لا يتم مع خوف الانقطاع قال: {خالدين فيها} خلودًا لا آخر له لأن الله أورثكم ذلك ما لا يورث عنكم كما كان حكام الدنيا لأن الجنة لا موت فيها.
ولما كان هذا أمرًا سارًّا في ذلك المقام الضنك محبًا بأمر استأنف مدحه بقوله: {ذلك} أي هذا الأمر العظيم جدًا {هو} أي وحده {الفوز العظيم} أي الذي ملأ بعظمته جميع الجهات من ذواتكم وأبدانكم ونفوسكم وأرواحكم.
ولما عظم هذا الأجر الكريم ببيان ما لأهله في الوقت الكائن فيه، عظمه بما لأضدادهم من النكال، فقال مبدلًا من الظرف الأول: {يوم يقول} أي قولا مجددًا يلجئ إليه من الأمور العظيمة الشاقة {المنافقون والمنافقات} أي بالعراقة في إظهار الإيمان وإبطان الكفران {للذين آمنوا} أي ظاهرًا وباطنًا، وأما من علا من هذا السن من المؤمنين ومن فوقهم فالظاهر أنهم لا يرونهم ليطمعوا في مناداتهم (وأين الثريا من يد المتناول) {انظرونا} أي انظرونا بأن تمكثوا في مكانكم لنلحق بكم، وكأن الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما توصل المقدرة إليه خوف الفوت، لأن المسؤولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف، وقد حققت المعنى قراءة حمزة بقطع الهمزة وكسر الظاء أي أخرونا في المشي وتأنوا علينا وأمهلوا علينا، لا تطلبوا منا السرعة فيه بل امكثوا في مكانكم لننظر في أمرنا كيف نلحق بكم، والحاصل أنهم عدوا تأنيهم في المشي وتلبثهم ليلحقوا بهم إنظارًا لهم {نقتبس} أي نأخذ ونصيب ونستصبح {من نوركم} أي هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه بشيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء جزاء وفاقًا، وسبب هذا القول أنهم يعطون مع المؤمنين نورًا خديعة لهم بما خادعوا في الدنيا لتعظم عليهم المشقة بفقده لأنه لا يلبث أن يبعث الله عليهم ريحًا وظلمة فتطفئ نورهم ويبقون في الظلمة، وإلى ذلك ينظر قول المؤمنين {أتمم لنا نورنا} أي لا تطفئه كما أطفأت نور المنافقين.
ولما كان المنكئ لهم إنما هو الرد من أي قائل كان، بنى للمفعول قوله: {قيل} أي لهم جوابًا لسؤالهم قول رد وتوبيخ وتهكم وتنديم: {ارجعوا وراءكم} أي في جميع جهات الوراء التي هي أبعد الجهات عن الخير كما كنتم في الدنيا لا تزالون مرتدين على أعقابكم عما يستحق أن يقبل عليه ويسعى إليه {فالتمسوا} بسبب ذلك الرجوع {نورًا} ويصح أن يراد بالوراء الدنيا لأن هذا النور إنما هو منها بسبب ما عملوا فيها من الأعمال الزاكية والمعارف الصافية، ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء: إن هذه الآية تدل على أن الأنوار لابد أن يتجدد أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقًا فأمّا أن يتجدد ثَمَّ نور فلا.
ولما كان التقدير: فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة، سبب عنه وعقب قوله: {فضرب} مبنيًا للمفعول على نحو الأول، ولإفادة أن الضرب كان في غاية السرعة والسهولة، ويجوز أن تكون الفاء معقبة على ما قبله من غير تقدير {بينهم} أي في جميع المسافة التي بين الذين آمنوا وأضدادهم في وقت قولهم هذا.
ولما كان المقصود أن ضربه كان في غاية السرعة، لم يوقع الفعل وأتى بالفاء ليفيد أنه كان كأنه عصًا ضربت به الأرض ضربه واحدة، فقال: {بسور} أي جدار محيط محيل بين الجنة والنار لا يشذ عنه أحد منهم ولا يقدر أحد ممن سواهم أن يتجاوزه إليهم {له باب} موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن الله له من المؤمنين بما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم لشفاعة أو نحوها {باطنه} أي ذلك السور الباب وهو الذي من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب {فيه الرحمة} وهي ما لهم من الكرامة بالجنة التي هي ساترة ببطن من فيها بأشجارها وبأسبابها كما كانت بواطنهم ملاء رحمة {وظاهره} أي السور أو الباب الذي يظهر لأهل النار، مبتدئ {من قبله} أي تجاه ذلك الظاهر وناحيته وجهته وعنده {العذاب} من النار ومقدماتها لاقتصار أهله على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن وعكس ما أرادوا من حفظ ظواهرهم في الدنيا مع فساد بواطنهم، ودل على ما أفهمه التعبير بالمضارع في (يقول) من التكرير بقوله استئنافًا: {ينادونهم} أي المنافقون والمنافقات، يواصلون النداء وهم في الظلمة للذين آمنوا يترفقون لهم في مدة هذا القول والضرب: {ألم نكن} أي بكليتنا {معكم} أي فيما كنتم فيه من الدين فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الدين الذين كنا معكم فيه {قالوا} أي الذين آمنوا {بلى} قد كنتم معنا {ولكنكم فتنتم} أي كنتم بما كان لكم من الذبذبة تختبرون {أنفسكم} فتخالطونها باختبار أحوال الدين مخالطة محيلة لها مميلة عما كانت عليه من أصل الفطرة من الاستقامة، تريدون بذلك أن تظهر لكم فيه أمور محسوسة لتخلصوا فيه من الشكوك فتخلصوا، فما آمنتم بالغيب فأهلكتموها وتبعتم أيضًا الأمور التي كنتم تفتنون بها من الشهوات، فأوجبتهم لكم الإعراض عن المعالي الباطنات {وتربصتم} أي كلفتم أنفسكم أن أخرجتموها عن الفطرة الأولى فأمهلتم وانتظرتم لتروا الأمر عيانًا أولم تفعلوا كما فعلنا من الإيمان بالغيب وترك التجربة ونسبة ما يحصل لنا مما فيه فتنة إلى أنفسنا بتقصيرنا، وكنا كلما حصل لنا ما يزلزل نقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ولا يزيدنا ذلك إلاّ إيمانًا وتسليمًا وانتظرتم أيضًا الدوائر بأهل الإيمان لتظهروا النفاق {وارتبتم} أي شككتم بتكليف أنفسكم الشك بذلك التربص {وغرتكم الأماني} أي ما تتمنون أي تريدون وتقدرون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء {حتى جاء أمر الله} أي قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفوء له ولا خلف لقوله من الموت ومقدمات من الأمور الدهشة، فكما كنتم في الدنيا مقصرين كنتم في هذا الموطن {وغركم بالله} أي الملك الذي له جميع العظمة، فهو بحيث لا يخلف الميعاد وهو الولي الودود {الغرور} أي من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان وهو العدو الحسود، فإنه ينوع لكم بغروره التسويف ويقول: إن الله غفور رحيم وعفو كريم، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنه وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو هذا، فلا يزال حتى يوقع الإنسان، فإذا أوقع واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى، فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده.